أكذوبة معركة عنجر
تصغير الخط
تكبير الخط
طباعة الصفحة
  
 
 

                                                                                                                                                      أُكذوبة معركة عنجـر

                                            جعفر المهاجر

ـــ توطئة

هل يمكن أن يكون أمرٌ ، هو في حقيقته سـببٌ هيّنٌ ، بابَ اعـتزازٍ وافتخارٍعلى نطاقٍ عامّ ؟

 نقول في الجواب : نعم يُمكن . بل إنّ هذا ومثله كثيرٌ في الأساطير المؤسّسة للدُّول والأُمـم .

لكنّ أُنموذجنا ، وهو في الوقت نفسه أُطروحة البحث ، قد تجاوز ذلـك المُسـتوى من الهوان ، باتجاه مستوىً أدنى ، من التزييف والتوظيف الغلط المقصود . نعني بذلك ما يُسمّى في لغة العديد من مختلف الأُكتوبات ذات الصفة التاريخيّة ومن أعمال فنّيّة بـ "معركة عنجر" . بوصفها ، عند الذين اخترعـوها وقدّموها لشعبهم ، حدثاً بارزاً في التاريخ . أسّس وهيّأ لِما بعده من مشروعٍ سياسيّ . وُضع ورُسم في الأذهان وعلى الورق . بحيث  لم يكُن ينقصه إلا النّسَب . بدونه سيكون أشبه بشجرةٍ من جذعٍ وأغصان وفروع ، لكنّها بدون جذور. فـيأتى ماسُمّي بـ "معركة عنجر" في رأس هاتيك الجذورالمزعومة .

هل حدث كلُّ ذلك من نفسه بنفسه ولنفسه ؟

بالأكيد كلّا . وإنما جرى تزييف وتوظيف الحدث المزعوم ، أي "معركة عنجر" ليكون عنصراً من عناصر تركيب نظامٍ سياسي جديد ، قائمٍ ومبنيّ على أنّ هذه البقعة من الأرض ذات خصوصيّة في الماضي ، وذات وظيفة في المستقبل ، مختلفتان عن كلّ ما حولها .

بُغيتنا في هذا البحث أن نكشف حقيقة الحدث وحجمه وغرضه . وهل هو أمرٌ قد حصل بالفعل كما وصفه الواصفون ؟ ثم هل كان بالفعل دفاعاً عن "لبنان" ، في وجه قوةٍ أجنبيّة غازية . تُوّج بالانتصار المؤزّر ، كما زعم الزّاعمون ، ويحتفي به اليوم المُحتفون ؟

ـــ في الوقائع

دعونا نبدأ ببسط ما هو ثابتٌ من وقائع الحدث :

ـــ أولاً : في تاريخٍ غير معلوم بالضّبط ، من أوائل القرن السابع عشرللميلاد ، خرج من "دير القمر" عاصمة الأُمراء المعنيين ، جيشٌ لجب . بقيادة الأمير فخر الدين المعني . سلك طريقه باتجاه "سهل البقاع" .

ـــ ثانياً : في الوقت نفسه خرج من عاصمة المنطقة "دمشق" عسكرٌ آخر، ولا نقول جيش . معقود اللواء للوالي العثماني مصطفى باشا . سلك طريقاً يؤدّي إلى السهل نفسه .

من المؤكّد الذي لاريب فيه أنّ العسكران لم يكن يقصد أحدهما الآخرمقاتلاً . كما قد يوحي ظاهر الأمور للمراقب العادي في ذلك الأوان . لأن الاثنان كانا يعملان لسيّدٍ واحدٍ بعينه هو الدولة العثمانيّة . كان فخر الدين جلاّداً عند العثمانيين . أمّا الوالي فقد كان يغضُّ الطّرْف ، بأمرٍ من "إستامبول" ولا ريب ، عن آثام فخر الدين في السّلب والنهب وإزهاق الأنفس .

إذن فثمّة سببٌ خفيّ هو الذي دعاهما لذلك الحراك العسكري الكبير في الاتجاه نفسه . سيكون علينا أن نفسّره . لكن بعد أن ننتهي من بسط وقائع الحدث.

ـــ ثالثاً : في نهاية المسير التقى العسكران وجهاً لوجه . عسكرُ فخر الدين الكبير القويّ والحسن الاعداد ، الذي كان أشبه ما يكون في ذلك الأوان بجيشٍ مُحترف . كيما يكون مهيّأً دوماً لخوض المعارك بخدمة سيّده ، ولخدمة سياسته الدّائمة في مـدّ حدود منطقة حكمه ، وضم أراضي الآخرين إليه بالقوة . وعسكر الوالي العثماني في "دمشق" مصطفى باشا . الذي لم يقُلْ أحدٌ ماكان غرضه من النّفر بعسكره . ولم يكُن له عهدٌ بالقتال . لأنه موظفٌ مدني عند "إستامبول" . لم يكن تحت إمرته من المُسلّحين سوى أشبه بمن نسمّيهم اليوم عناصر الأمن الداخلي . وما أولئك الذين حشدهم وخرج بهم ذلك الخروج إلا أفرادٌ من العباد ، جرى حشدهم بالقوة من الأسواق وأماكن العمل . ثم تسليحهم بما هـو مُتيسّر .

ليُساقوا سوقاً إلى حيث التقوا بعسكر فخر الدين . لذلك  فإنّه ما أن التقت العيون بين العسكريَن ، قرب قرية اسمها "عنجر" ، حتى رمى عسـكرُ الوالي سـلاحه البسـيط ولاذ بالفرار . وما ندري هل عاد هؤلاء إلى مواطن عيشهم . أم انضمّوا إلى عسكر فخر الدين . ونرجّح الاحتمال الأوّل . لأن القوم انتُزعوا انتزاعاً من مواطن عيشهم وأسباب رزقهم . فلم يكُن لهم غرض ، بعد أن كفاهم الله مؤونة القتال ، أولى من العودة إلى أُسرهم وأعمالهم .

ـــ النتيجة الأُولى للبحث

إذن ، فما كان من معركةٍ ولا مَن يُعاركون . وأنّ ما كان من نزاعٍ أو اختلافٍ بين الطرفين كان سحابة صيف ، ما لبث أن استعاد السّلم والسّلام  . بل إنّ ما كان سبباً للحشد قد انتهى وحلّ محلّه الوئام . بشهادة عودة المياه إلى مجاريها بعد قليل بين الأمير والباشا . لكن على قاعدةٍ أُخرى . سيكون علينا بيانها ، لنكشف الأسباب والخلفيّة الحقيقيّة لكلّ ما حدث وسيستمرّ .

لكنّ المشغولي الوُجدان بتركيب الوطن الجديد على ركائزمتينة . قـرأوا أو قيل لهم ، إنّ أميراً لبنانياً يقود جيشاً من اللبنانيين ، قد واجه جيشاً عثمانياً قادماً عند الحدود اللبنانيّة ــ السوريّة . فخرج بعسكره لمواجهته ، وحصل اللقاء في قرية "عنجر" . وأن المواجهة انتهت بهزيمة العثمانيين وفرارهم . فلم يروا في ذلك إلا أنّها حربٌ خاضها "لبنان" بجدارة في وجه الدولة العثمانيّة الجبارة ، وانتصر فيها نصراً مؤزّرا .

إذن ، وهذا هو مربط الفرس عند هؤلاء ، فذلك يُثبت أنّه  كان ثمة من زمان روحٌ وطنيّةٌ جامعة على قضيّة "لبنان" الوطن أو حوله ، قبل تأسيسه رسمياً بالفعل بقرون . وما تأسيس الدولة فيما بعد إلا تعبير صريح عن هذه الروح الكامنة . والتي من حقّها ، مادامـت قـد عـبّرت عن نفسها في "معركة عنجر" بتلك القـوّة فيما زعموا ، أن تتابع فتُعبّرفيما بعـد عن ذاتها المكنونة التعبير السياسي المناسب .

 

 

ـــ الحقيقة الغائبة

أمّا بعد ، وها قد بان لنا أنه لم يكن ثمّة من معركة في "عنجر" ، وأن الأُمور قد عادت سريعاً عند الطرفين إلى ما كانت عليه قبل قليل ، فإنّ ذلك يطرح سؤالاً كبيراً كامناً هو :

إذن ، وما دام أمرُ "عنجر" قد انتهى تلك النهاية الهيّنة ، التي لم تكن في حسبان أحدٍ من الطرفين فيما يبدو ، حين حشد وقصد الجهة نفسها . فلماذا إذن تجشّما ، وخصوصاً فخر الدين ، كلّ ذلك العناء ؟

كما أنّ من المؤكد أن كلا الطرفين ، إذ حشد وحرّك قواه  المقاتلة ، لم يكن يقصد الآخر، بل ربما لايعلم ، حتى مُجرّد علم ، بحشده وحركته بالمُقابل . وإنّما كان يقصد طرفاً ثانيا . وإذن ، مَن هو ذلك الطرف الخفي ؟

الحركة التالية من فخر الدين تبدأ كشف حقيقة ذلك الذي يجري . ذلك أنّه ما أن حيّدَ العسكرَ الدمشقي ، واختفى هذا عائداً إلى بلده فيما يبدو، حتى رأيناه هو ، أي فخر الدين ، يتخذ سبيله هابطاً باتجاه "سهل البقاع" .

إذن فهذا هو المقصود المكتوم منذ البداية ، أي "سهل البقاع" . وما ذلك الذي جرى قبل قليل في "عنجر" إلا بمثابة عثرةٍ ظهرت في طريق فخر الدين من حيث لم يكُن يحتسب . فكان عليه أن يُزيلها من دربه ، قبل أن يُتابع المسير إلى مقصده . وهكذا كان .

السؤال الآن بات مُحدّداً وواضحاً : لماذا وماذا كان غرض فخر الدين إذ اتخذ طريقه إلى السهل الكبير .

الجواب يستدعي العودة بالتاريخ قليلاً إلى الوراء .

ـــ سهل البقاع

كان السّهل ، الذي تبلغ مساحته 42 % من مساحة ما هـو "لبنان" اليوم ، من أفضل الأماكن لعيـش البشرفي ذلـك الأوان . بل ربما الأفضل على الإطلاق في كل المنطقة . وذلك بفضل أُسرة آل الحرفوش ، التي نُرجّح أنها ترجع بأصولها البعيدة إلى المهاجرين الهمدانيين الأوائل من "الكوفة" . لكنّها  ماعتّمت أن غـدت ظاهرةً سياسيّة فريدة في كل المنطقة . من حيث أنها نجحت في الوصول إلى الإمارة في "بعلبك" بسلام وقبولٍ من أهلها . مع أنّ أكثريّة المدينة كانت يومذاك حنبليّة المذهب . وما ذاك إلا لأن آل الحرفوش كانوا في السلطة كما كانوا قبلها : يعملون حتى كبار أُمرائهم لكسـب لقمة العيش . ولا يُكلّفون الناس ضرائب وأتاوات لصالحهـم . حتى بيوتهم كانت من حجر وطين ككل بيوت المدينة . ولذلك لسنا نجد أيّ أثرٍ لقصورٍ منسوبة إليهم ، على طول مدّة حكمهم . ولم يذكر أحد أنهم سلكوا فيما كان يسلك الآخرون ، من ضروب الفتن العالقة بين جُباة الضرائب كبيرهم وصغيرهم . ثم أنهم رعـوا الناس في لقمة عيشهم ، ومنحوا قضيّة التنمية الزراعيّة والانتاج الحيواني أهميّةً مطلقة . بحيث وصلت منطقة حكمهم إلى حالةٍ من الرّفاه والملاءة غير مسبوقة ، وربما غير ملحوقة حتى اليوم . إلى درجة أن الأمير يونس بن حسين الحرفوشي كان يُسدّد الضرائب الإلزاميّة عـن منطقة حكمه للسلطة المركزيّة في "استامبول" ( الأموال السلطانيّة ) ليس نقداً ، بل عـيناً  من فائض نتاج القمح عن حاجة الناس .

ولقد حاولت الدولة العثمانيّة كلَّ ما في وُسعها تحريضَ صنائعها المحلّيين على تدمير هذا الأنموذج الإنساني من السلطة فما استطاعـت . وذلك بفضل البراعة السياسيّة للحرفوشيين ، وفي رأسها الحفاظ على العلاقات الطيبة ما أمكن مع الكافّة من ذوي الشأن .

أخيراً ، كلُّ شيءٍ يدلُّ على أن "إستامبول" اتخذت القرار بتدميرهذا الأُنموذج نهائياً . وما ذلك إلا لأنّه ، حيث بذلَ السّلام والعدل والكفاية للناس دون تمييز، يُشكّل النقيضَ لها في كلّ شيء . خصوصاً في ظلّ نظرتها الحادّة الغبيّة إلى مسألة المذاهب والتّمذهب في الإسلام . فكيف تسكت على هذا الأنموذج الناجح ، ما دام أنّ شرف  ابتداعه وأنتاجه هو لقومٍ هم عندهم "بيرون ملّت" ، اي ليسوا من المسلمين من رأس .

 

 

ـــ الإعـداد للمذبحة

بدأ الإعداد للقضاء المُبرَم على المُنتَج الحرفوشي في السياسة والاجتماع بخطوةٍ مفاجئة ، لا ريب في أنّها لم تكن مفهومةً للناس في أوانها . وذلك بأن أقدمت السُلطة العثمانيّة المحليّة على تهجير الحنابلة كافّـة من موطنهم التاريخي في المنطقة الشّاميّة مدينة "بعلبك" . شمل عاصمتهم الثقافيّة في المنطقة نفسها بلـدة "يونين" المجاورة . وذلك في موكبٍ هائل اتجه إلى "دمشق" . استقرّ حين وصل إليها في منطقةٍ مُعدّة سبقاً وسلفاً في سفوح جبل "قاسيون" . سرعان ما أُعـدّ لاستيعاب تلك الجموع الكبيرة بالمساكن والمرافق الضروريّة . بحيث غدا بلدة حقيقية سُميت "الصالحيّة" / بلد الصالحين . كما لايزال حتى اليوم .

ممّا لا ريب فيه أنّ قرار التهجير الجماعي قد اتُخذ على أعلى مستوى في "استامبول" . وأن تنفيذه ، بما فيه استقرار المهاجرين في وطنهم الجديد ، قد تمّ بالرعاية التّامة والتنظيم المباشر من أجهزتها المحلّيّة . وذلك أمرٌ بغنى عن تجشّم الدليل . وإلا فمن ذا الذي غيرها يجروء ، قبل أن يستطيع أو لايستطيع ، على اتخاذ القرار بشأنه ، ومن ثَـم تنفيذه ، بما انطوى عليه من جوانب أمنيّة وسُكانيّة وعملانيّة . .. الخ .

السؤال هنا هو لماذا ؟ وما هو غرض السلطة العثمانيّة من ذلك التدبير المُفاجئ العجيب ؟

الجواب ، الغرض هو تحييد أولئك الحنابلة عن الهول القادم . فلا ينالهم ما سينال غيرهم من سكان السهل ، وخصوصاً في عاصمته "بعلبك" . وهم الذين كانوا يومذاك أكثريّة سكانها الكاثرة . وبالنظر للخطة المرسومة التي سنقف عليها ، فما من سبيل لتحييدهم إلا بتهجيرهم الجماعي ، بحيث لا يبقى فيها منهم أحد . وهكذا كان . بعدها اطمأن الحاكمون بأمرهم في "إستامبول" إلى أنّ العمليّة القادمة ستكون ( نظيفة ) . ولن يلوم أحـدٌ الدولة التي ترفع شعار الخلافة على أنّها قد ارتكبت جريمة قتلٍ جماعي بمسلمين .

 

 

ـــ عودٌ على ذي بـدء

بالنظر إلى هذا التركيب للتاريخ من نُتفٍ متفرّقة ، فربّ قارئٍ حصيفٍ سيسبقـنا إلى النتيجة ، العائدة إلى حلّ إشكاليّة البحث الأساسيّة . ومنها السبب الذي جعل فخر الدين ووالي "دمشق" ينفران معاً بعسكرهما ، في وقتٍ واحد ، وفي الاتجاه نفسه . لقد كانت حركتهما إشارة البـدء إلى تنفيذ الخطّة المهولة بأمر من "إستامبول" . لكن بـرزت في البين مشـكلة تفصيلية : مَن الـذي سـيكون له ( شرف ) تنفيذها ؟ أو بالأحرى من الذي سـيفوز بالأسـلاب والمنهوبات الهائلة المركومة في السهل الغني ، وبالخصوص في عاصمته "بعلبك" ؟

ذلك هو ، أيّها الناس ، الإشكال الوحيد الذي جرى حلّه في "عنجر" . إنّه كان نزاعاً بين لصّين اثنين على القتل الذريع لشعبٍ مُسالم ، والتدمير العميق للجزء الأكبر المُنتج من "لبنان" تدميراً عميقاً . شمل التقتيل العام العشوائي للرجال . والاستيلاء على قطائع المواشي وحواصل الحبوب الغذائيّة . وقطْع الأشجار المثمرة بالملايين . وفي بعض كُتُب التاريخ أوصافٌ تُدمي القلب لِما جرى يومذاك . بحيث لم تقُم بعدها لـ "سهل البقاع" قائمة حتى اليوم .

إذن فعندما يُمنح يوم "عنجر" تلك الصورة المُشرقة ، فذلك ، إن دلّ على شيء ، فعلى الافتقار الشديد إلى تحرّي الحقيقة على الأقلّ .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مادة المقالة مُستلّةٌ بإيجاز من كتابنا القادم ( بعلبك ، قصّةُ مدينة )

 


الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق لوحة المفاتيح العربية
رمز التأكيد